التمويل : المشكلة والحل..

قبل أن أبدأ هذا المقال أود الإشارة إلى أنني سأحرص على عدم استخدام مصطلحات اقتصادية معقدة"قدر الإمكان" لأن المقال موجه إلى الرأي العام وليس إلى المتخصصين في الاقتصاد، وسوف اورد المعلومات والاحصائيات والبيانات بصورة سلسة توصل الفكرة.
وفي بداية هذا المقال الموجز الذي يحمل عنوان: التمويل ..المشكلة والحل، أريد أن أؤكد أن الجميع يدرك أهمية التمويل ومركزيته في حياة الفرد أو المؤسسة أو الدولة ...فالفرد لايستطيع أن يوفر احتياجاته من السلع والخدمات إلا بالمال..
وكذلك المؤسسات لن تستطيع أن تتحرك نحو أهدافها إلا بهذه الوسيلة المحورية"التمويل"، فإذا كانت ذات نشاط ربحي فهي تحتاج رأسمال يمكنها من البدء في ممارسة النشاط الذي ترجو أن يعود عليها بالفائدة ...وإذا كانت غير ربحية فهي تحتاج المال الذي يغطي الميزانية المحددة لتنفيذ أنشطتها المجتمعية وبرامجها الخيرية ..
وكذلك حال الدول فهي تحتاج إلى المال حتى تؤدي واجباتها وتقوم بالتزاماتها...
ولهذا فإن الفوارق بين الأفراد والمؤسسات والدول "من حيث الثقة بالملاءة المالية والقدرات الاقتصادية" تتحدد بما يملكون من قدرات مالية في صورتها المادية ( نقدية أو أوراق مالية ....الخ )أو معنوية وهي الثقة بالقدرة التي يمتلكها(الفرد/المؤسسة / الدولة) على تغطية قيمة الإئتمان والوفاء بالالتزامات..
لذلك فإن من يريد أن يقوم بأي نشاط فإنه يحتاج إلى المال ...
وهنا نجد أن من يمتلك المال يستطيع أن يقوم بالأنشطة التي يريدها ويلبي الرغبات التي يرى أنه يحتاجها،
ولهذا ظهر في هذا العالم تباين وفروق شاسعة بين الغالبية التي تعاني من الفقر المدقع والأقلية التي تستأثر بالغنى الفاحش.
وقد حدث على مر التاريخ "ولايزال" اعتراض المجتمعات الحية وثورتها ضد هذا التمايز "الطبقي" الذي كان دور السلطات فيه رئيسيا بسبب إنتهاجها ساسيات تضمن بقاء المال "دولة بين الأغنياء" من ناحية ومن ناحية أخرى تضمن بقاء الأكثرية مستعبدة ومضطهدة .والمتابع للصراع الذي نشأ بين مدارس الفكر الاقتصادي يجد أن المال وما ينتج عن تكدسه لدى أقلية مستحوذة "تستخدمه كيفما تشاء ولو في صورة الأداة التي تمكنها من القهر والإذلال للآخرين"و كذا ما ينتج عن حرمان أكثرية تكد من أجل البقاء على حد الكفاف "بل ربما تكد من أجل البقاء على قيد الحياة"
وهنا نجد أن جميع مدارس الفكر الاقتصادي قد أدلت بدلوها بناء على أسسها العقدية والفلسفية... ومنها المدارس ذات العقائد الوضعية التي يرى أغلبها أن الاقتصاد ليس له قواعد أخلاقية وان "الغاية تبرر الوسيلة" واهمها المدرسة التي ينبثق عنها النظام الرأسمالي الذي عاث في الأرض فسادا وظلما... وهو الذي جعل للإنسان مبررا ثقافيا وفكريا أن يعيش ولو على حساب حياة الآخرين ..
وبناء على هذا الوضع الذي جاء نتيجة لتراكمات مئات السنين ... ثارت الناس وأصبحت تعلق آمالها وتولي وجهها باتجاه الفكر الاشتراكي ليكون المخلص والمنقذ ..
لكن الاشتراكية جاءت بالنفس الثوري وليس بالحلول العلمية المنصفة والعادلة ...ولم تستطيع أن تحل مشكلة التمويل الذي لازال يلعب دور سبب النجاح والفشل ..
ففي الرأسمالية تجد البنوك والشركات تجمع أموال الناس لتوظيفها ثم تعطي الناس الفتات، لكن من يؤسس(فرد أو جماعة) ويدير تلك المؤسسات المالية يصبح قادرا على الاستفادة من أموال الناس واستثمارها لمصلحته ، أي أن قدرات الناس الاقتصادية أصبحت في يد آخرين يستثمرونها ولو في الإضرار المباشر بالاقتصاد ...
أما في الاشتراكية فقد أبقت الدولة المال بيدها وعطلت قدرات الشعوب واضعفت حافز العمل والإنتاج ..
ومن مدارس الفكر الاقتصادي ما يمتد انتمائها العقائدي للديانات السماوية ومنها مدرسة الفكر الاقتصادي الإسلامي
التي تتضمن صور عديدة لتطبيقات التمويل..لكن البنوك الإسلامية ( لم يمر على تأسيسها أكثر من خمسين عاما) لم تصنع الفارق الكبير في سياسات التنمية( رغم أنها تجاوزت العقبة الرئيسية وهي مشكلة الربا) ولم تطبق منتجات التمويل الأكثر خدمة للأهداف التنموية والتقرب إلى قيمة العدالة كالمشاركة "مثلا" إلا بنسبة ضئيلة جدا رغم أن منتج المشاركة هو افضل المنتجات قدرة على إحداث تنمية وتحقيق ق��مة اقتصادية مضافة .
والسبب هو أن البنوك الإسلامية نشأت في ظل سيطرة نظام رأسمالي يمتلك من الأدوات والوسائل والامكانيات الشيئ المهول ولن تستطيع البنوك الإسلامية مجاراته فيها( المؤسسات المالية الإسلامية عددها يقارب ال 2,000/الفين ومجموع أصولها قد يصل إلى 3,4مليار دولار في عام 2023م ..بينما البنوك الربوية عددها يتجاوز المليون وبعض الاحصائيات تقدرها ب مليون ونصف ..وقد وصل إجمالي اصول البنك رقم أربعة 4 في الترتيب العالمي في عام 2014م إلى 3,4مليار دولار ولديه أربعة وعشرين ألف فرع وإجمالي موظفيه يتجاوز ثلاثمائة ألف موظف .
... يعني بنك واحد لديه إمكانيات اكبر من ال 2,000مؤسسة مالية إسلامية !!!)
ولا بد من الإشارة إلى أن تصنيف البنوك في الترتيب العالمي أظهر أن الأربعة البنوك الاولى عالميا
(وهي بنوك صينية) قد بلغت قيمة إجمالي أصولهم 17.32 تريليون دولار، بارتفاع 16.8% عن ترتيب عام 2020 .وهذه البنوك هي : البنك الصناعي والتجاري الصيني، وبنك التعمير الصيني، والبنك الزراعي الصيني و"بنك أوف تشاينا" صدارة البنوك العالمية في 2021.
صحيح أنه يجب علينا أن لا ننسى عند مقارنة النظام المصرفي الإسلامي مع النظام الربوي أن النظام المصرفي الإسلامي عمره خمسين عاما وتأسس في ظل منافسة ربوية شرسة وغياب دعم الدولة وصراع فكري يوجه سهامه إلى المصارف الإسلامية بعضه اسلامي يحرم التعامل مع البنوك الإسلامية من ناحية وبعضه علماني يرفض البنوك الإسلامية من الأساس ويشوهها ويشكك فيها وفي القائمين عليها من ناحية أخرى، رغم أن البنوك الإسلامية نشأت في حواظن مجتمعية فقيرة أساسا وقوة ملائتها المالية ضعيفة جدا ونسبة مشاركة الدول "التي تأسست فيها " في الناتج الإجمالي العالمي ضئيل جدا وهذا يعني أن البنوك الإسلامية نشأت في بيئة تركز على التجارة والخدمات المحلية والمشاريع الصغيرة وليس الإنتاج والصناعة والمشاريع الكبيرة ..
بينما النظام المصرفي الربوي نشأ قبل أكثر من ستمائة وثلاثين عام وتأسس منفردا بلا منافسين وفي ظل رعاية كاملة من الدول ودعم والتفاف مجتمعي كبير وبدأ نشاطه في الإنتاج والصناعة والتجارة العالمية. بل أن بعض تلك البنوك الربوية لديها تراكم خبرات وتراكم رأسمال وعلاقة بالاسواق على مدى مئات السنين.
وهنا نقول أن البنوك الإسلامية يجب أن تغير سياساتها بما يتلائم مع النظرية الإسلامية العامة المؤسسة على الأخلاق والقيم والتي من أبرزها العدالة ومنع الاستغلال وحب الخير للآخرين والتركيز على النفع العام والمصلحة العامة وان تنتهج سياسات تضمن توزيع الثروة بين مكونات المجتمع بصورة عادلة .. وتتيح وتشجع وتصنع فرص نمو القدرات المالية لدى الطبقات المحرومة والضعيفة.
والآن نريد أن نوجه السؤال التالي ..هل البنوك الإسلامية والربوية قادرة على اتباع نظام تمويل يقدم حلا عادلا يبتعد عن استغلال أموال الناس ويضمن عدم تركيز المال في يد القلة ويحقق التنمية المرجوة؟؟
انا اعتقد أن الإجابة على هذا السؤال بنعم تحتاج إلى سياسة تحول فكري قد تتجاوز عشرات"أو مئات" السنين..
لأن البنوك القائمة أنشأت بهدف تحقيق الربح لمؤسسيها وليس من أجل إحلال العدالة وإحداث التنمية.(ولو كانت هذه الشعارات الفضفاضة والعناوين البراقة والدعايات الجاذبة موجودة في أدبيات الكثيرمن المؤسسات المالية والمصرفية )
ولذلك فإن العدالة لا يمكن أن تتحقق بواسطة المؤسسات التي كانت ولاتزال أدوات ووسائل للظلم، وكذلك البناء لا يمكن يكون بنفس معاول الهدم...
وعلى هذا فإننا نحتاج إلى نظام تمويل مختلف تماما عن نظام التمويل المعروف ولن يقدم هذا النظام الحل إلا إذا تجنب أخطأ نظام التمويل الإحتكاري والاستغلالي الجشع .
ومن أجل ذلك اليقين المترسخ في وجداننا فقد قمنا بإنجاز الأسس النظرية لنظام التمويل التعاوني الاسلامي وثبتنا النظرية لدى جهات الاختصاص محليا ودوليا ثم أسسنا الهيئة العالمية للتمويل التعاوني الاسلامي(27 / 7 / 2013 م) لتؤدي دور الحامل المؤسسي للمشروع ...وهذا النظام هو الحلقة الأهم في مشروع متكامل يهدف إلى تقديم قراءة جديدة للنظام الاقتصادي ومشكلاته ويبدأ هذا المشروع من معالجة اختلالات الفكر الاقتصادي ثم صياغة أسس وإعداد هيكل لنظام اقتصادي ثم نظام التمويل وهو الحلقة الأهم والذي يشكل كلمة السر والعلامة الفارقة الجوهرية ...
لكن نحن حاليا نبدأ بنظام التمويل ...لأن الفكر الاقتصادي يهتم به المختصين وتعنى به مدارس الفكر الاقتصادي والنظام الاقتصادي ليس له أولوية لأن المعني بتطبيق النظام الاقتصادي هي الدول،ووضع الدول لا يشجع حاليا على تبني نظام اقتصادي مغاير للنظام السائد الذي تديره مراكز القوى العالمية وتحرسه وتحمية منظومة القوى والمصالح على المستوى الوطني في كل دولة .
والمهم اليوم والذي يحتاج إلى عمل دؤوب هو تطبيق نظام التمويل التعاوني حتى يقدم حلا مباشرا وعاجلا لمشكلة الفقر المستشري والتراجع الاقتصادي وغياب السياسات العادلة في توزيع الثروة ...
ولعل بلدنا اليمن هي من أفضل البلدان التي يمكن أن تستحق بجدارة أن يطبق فيها نظام التمويل التعاوني(التمويل العادل) وذلك لان حجم الاختلال الاقتصادي فيها كبير جدا وتراجع المستوى المعيشي للمواطن ومؤشراته تزداد سواء يوما بعد يوم ...وهذا في ظل فرص لنجاح هذا النظام نظرا لطبيعة المجتمع المترابط أسريا وقبليا ومناطقيا وعمق الولاء الوطني العاطفة الإنسانية والقيم والتقاليد والاخلاق الحميدة ..
ومن أجل هذا فقد التقيت بالاخ رئيس الجمهورية مرات عدة في عام 2014م وطرحت عليه إمكانية أن يكون نظام التمويل التعاوني رافدا اقتصاديا يغني الدولة عن الاقتراض الذي يثقل الخزينة العامة بديون لتمويل برامج التنمية أو سد العجز في الموازنة.
وكانت توجيهاته ممتازة وتفاعله كذلك ...لكن الأوضاع الطارئة على البلد أوقفت جهودنا عن الاستمرار بنفس الوتيرة،ثم تم التحرك لإطلاق نظام التمويل ضمن مشروع إعداد الخطة الاستراتيجية للتنمية الشاملة 2020-2070م (مشروع 20-70 ) والذي تم تصميم أسسه لكي يعمل على امتداد خمسين عام من خلال عشر خطط خمسية.. وقد كان تفاعل الدكتور أحمد عبيد بن دغر ممتازا وتجاوب مع جهودنا إلا أن تغييره كان ضربه للمشروع ثم جاء رئيس الوزراء الجديد د.معين عبدالملك ولم ينعم بالهدوء والاستقرار في البلد هو وحكومته ولم نتمكن من لقائه ..
الآن .. هل نتوقف وننتظر الاستقرار ثم نبدأ ؟؟ أو أنه من الواجب علينا أن نستمر ونبذل جهودنا ولو أن نضيئ شمعة بدلا من أن نلعن الظلام ؟؟
وماهي الفائدة من الحلول إذا لم تأتي في وقت الشدة وفي ظل تعقيد المشكلة وفي قلب الأزمة؟؟
وها نحن نستأنف الجهد بصورة عملية وقد استكملنا الاستعدادات اللازمة نظريا وسيتم تدشين هذه المرحلة من خلال مخاطبة كبار مسؤولي الدولة من أجل تمكيننا من البدء وتسهيل مهامنا ...
والخطابات تم توجيهها إلى :
1)رئيس الجمهورية
2)رئيس مجلس النواب
3)رئيس مجلس الوزراء
4)رئيس مجلس الشورى
5)القوى السياسية المشاركة في الحكومة.
6)وسائل الإعلام ونشطاء المجتمع وصناع الرأي.
قد يسأل أحد ويقول بأن مخاطبة المسؤولين والأحزاب والقوى السياسية المشاركة في الحكومة أمر مفهوم بل وضروري ...لكن لماذا تخاطب وسائل الإعلام ونشطاء المجتمع وصناع الرأي؟
والإجابة هي أن طبيعة التمويل التعاوني يبدأ بنشاط مجتمعي خطوته الاولى التعريف ثم التوعية ثم توجيه الرأي العام ثم تنظيم الجهود ...الخ وهذه هي مهمة وسائل الإعلام ونشطاء المجتمع وصناع الرأي.
وختاما نقول أن التمويل مشكلة كبيرة يعاني منها الأفراد والمؤسسات والدول. لأن نظامه القائم والسائد يصنع العقبات وينتج الأزمات ونحن سنقدم الحل من خلال نظام تمويل تعاوني يختلف كل الاختلاف عن نظام التمويل الإحتكاري والاستغلالي.
فالتمويل التعاوني هو الحل الأقل كلفة والأسرع أثرا والأقدر على أحداث تنمية وعدالة اقتصادية .
فقط علينا أن نبدأ ونثق بأنفسنا وندرك أن طريق الالف ميل تبدأ بخطوة وان من سار على الدرب وصل وان من لا يحب صعود الجبال# يعش أبد الدهر بين الحفر
الخلاصة :
١) إن نظام التمويل القائم هو نظام مختل ولن يحقق تنمية عادلة ولا استقرار اقتصادي .
٢) نظام التمويل التعاوني الاسلامي يستطيع تكوين تراكم في المدخرات تخدم الفرد وتكون رأسمال اجتماعي .
٣) نظام التمويل التعاوني يهدف إلى إقامة مشاريع يمتلكها الأفراد المشاركين.
٤) التمويل التعاوني يمنع استغلال الناس ويحارب تركيز الثروة في يد قلة من الناس.
ولذلك انطلقنا، و نأمل أن تتضافر الجهود للمضي نحو الهدف حتى لا تبقى معيشة المواطن ورقة من أوراق الصراع ووسيلة من وسائل الإذلال والابتزاز .
ملاحظة :(سيتم نشر الخطابات على حساب الهيئة العالمية للتمويل التعاوني على الفيسبوك وعلى صفحة ميلاد الأمل)
كتبه / خالد المنصوب الصبيحي
*مؤسس ورئيس الهيئة العالمية للتمويل التعاوني الاسلامي.
*مؤلف نظرية التمويل التعاوني الاسلامي .
2021/8/18م